ومـــا أدراك ما الـــمــــركـــز !؟

ومـــا أدراك ما الـــمــــركـــز !؟
الله لنا وله لمزيد الخيرات

بقلم: محمد أنيس بن زيد النصري الأزهري

   المركز  وما أدراك ما المركز !؟ ما أجمل جدرانه ، وما أطيب رائحته ، وما أبيض ثمرته ، وما أوسع ساحته ، تتركز فيه دراسات الأمة ، وتتكشف منه مسائل غمة ، ويحمله أرباب الهمة ، ويتخرج منه أبناء القمة ، ما ذهبت إليه بمسئلة إلا أجيب بجواب ليس وراءه بجواب ، وما استفتيت فيه بقضية إلا أقنعت بعلوم ليس بعده من علم ، بوّابة فخّامة ، كأنها تصرخ عن أهداف الجامعة ، وتقول أن الحضارات والثقافات، تنبعث منها العلوم الدينية ، وإذا أتينا فيها نراها منصوبة في حديقة خضراء وفيها أشجار النخل وأزهار  متنوعة ، كأنها تقص لنا وتذكرنا قصص العرب القديمة
                                  ***
   قائده شيخ شجعان باسل ، أجرأ من ذي لبدة ، مارأيت أكرم منه أخلاقا ، ولا أنبل فطرة ، ولا أطيب عنصرا، ولا أخلص جوهرا ، كأنّ أخلاقَه سبكت من الذّهب المصفّي ، وكأنّ شمائله عصرت من قطر المزن ، صوته وصمته يكتب ، وآراءه ومواقفه تعلن ، صاحب الفضل والإحسان ، وأبو الأيتام والأبرياء ، قمر العلماء وسلطانهم ، بلغ صيته في الآفاق والأوطان ، وانتشر شهرته بين العرب والعجم ، باني المراكز والمساجد ، ومعين الفقراء والمساكين ، كأنه في رَبِيع عُمْره ، وَفِي مَرَح شبابه ، وفي ميعة النّشاط تتَرَقْرَق في عِطْفيه ماء الشّباب رغم أنه جاوز سبعة وسبعين من عمره
     *** 
   هل رأيتم وادي ريحان في المركز ؟!  أطفال تتلألأ عيونهم بالفرح والسرور لا يحسون فقدان الآباء والأمهات، ولا يشعرون شقاوة الشواق والمشوقين، كأنهم فراشات تطير في حديقة مزدهرة ، غلبت عليهم نشوة الطرب ، وأشرق في محياهم صباح البشر ، وكادوا يطيرون فرحا وابتهاجا

   وفي مساء جائني ولد صغير كأنه لم يتجاوز الخامسة أو السادسة من عمره تنبعث من عينيه طهارة الطفولية وتظهر في لباسه أوساخ الصبيانية خالعا نعليه ومقيدا سراويله ومطلقا أزرار قميصه وفي النظرة الأولى كأنه رياضي نزل ميدان السباق وقال : هل رأيت خالي الحارث ؟ كأنه ينتظر مني جوابا إيجابيا فوقفت هنيهة وتنهدت.. ، ولد صغير يسألني عن خاله!؟ كيف أدري خاله من بين آلاف الدارسين في هذه الجامعة؟! ، رب طالب بإسم الحارث ؟ هل هو في الثانوية ؟ أو في مدرسة الحفاظ ؟ أو في المطول ؟ أو في التخصص ؟  أو الكلية ؟ فسألته قائلا : ما اسمك ؟ ": سجير..." : من أين ؟ "من ترفانانتابورام..." :في أيّ صف خالك ؟ ": لا أدري..." فسقطت في سؤاله وسكتُّ ثم سألت : ماذا تريد..؟ فاقترب مني وقال : "هل تعطني خمس روبية..؟" : لأي شيئ ؟ : "لشراء الحلوى.."
   فرجعت قلبي إلى طفولتي المثمرة ولم يمر بي يوم دراسي إلا وأنا بكيت عند الام للفلوس إما روبية وإما الضّربة أو هما معا وليس وراءه احتمال للآخر وكان لأمي موقفا شديدا في ذلك أكثر ما للأب "ألا ليت الطفولة تعود يوما فأخبرها بما فعل السنون..." ذلك التذكار الجميل مر بي دقيقة فأعطيته  عشر روبية ثم قلت : هلا لك الوجبة مع القهوة في اليوم ؟ نعم لفافة البيض... فعجبت وقلت : انت تناولت الآن لفافة البيض ..!؟ فأنا مسكين لأني اقتنعت ببسكويت فابتسم ابتسام الفخر والسرور  وذهب كغني يتسلل من الفقير ...
 مناطق مليبار لا تزال تحس اكتظاظا بالمعاهد والمدارس لإيواء الأيتام والأبرياء كما تكتظ بالمعاهد الخيرية الإسلامية بمساعدات الأيادي الطويلة من  الأغنياء المسلمين من داخل الهند وخارجها وعلى الخصوص من البلدان العربية المختلفة أدام الله مساعداتهم وبارك الله في جميع معاملاتهم الخيرية  ، وقد اشتهر كيرلا كوضع اسمه خير الله يعني خير  بلاد الهند وتشرفت أرضها بقدوم الإسلام في عصر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم 
    هذا وأن وادي ريحان مختلف من كلّ هذه المعاهد بتسهيلات عديدة على جودة عالية وإمكانيات متنوعة تمنحها الجامعة للطلاب بعد التخرج منها وقد أمكنت لهم الجامعة فرصة الاختيار لدراساتهم العليا من الثانوية والباكالورية والماجستير وما بعدُ ماديا وروحيا حسب رأيهم وتبرعاتهم بمنحة الجامعة 
                                  *** 
  وفي جانب آخر  سكن أخضر للطلاب الكشميريين كلما أمر به أشعر كأنه يقول لي : كشمير للهنود..، وأبناءها هنود حقا..، وحدائقها وأشجارها وعيونها للهنود..، وجوها وأرضها وسماءها للهنود..، وفراشاتها وطيورها هنود..،  وشاعر قال من قبل : "لوكان في الأرض جنة هي الكاشمير"فجنة الأرض في الهند وأصحاب الجنة كأنهم جاؤوا إلى المركز  ، وكلهم صاروا جزء لا يكاد ينفصل من الجامعة يتخلّطوان بين المليباريين دون أيّ اختلاف ولا تعصبية  وفي يوم من أيام الجمعة ، يوم الإجازة لكبار الدارسين،  رأيت طالبا كاشميريا (إسمه حسن) بلغ الثالث عشرة من عمره يلعب غولي (goli) مع يتيم لم يتجاوز عمره عن الثامنة أو التاسعة ، واحد لا يعلم لغة الآخر ولكنهما يعلمان لعب غولي ويفهمان لغة اللعب والإنسانية فعرفت مباشرة كيف  يبني شيخنا حضارة جميلة خلال المركز (MARKAZ SHAPING A CULTURE).
                                 ***
   إذا أوت الشمس إلى كهفها ، والناس إلى مضاجعهم ، وأطفأت السرج ، وهدأت الأصوات وضجائج الجامعة ، واطمأنت أمواج البحار  لم تبرح الجامعة وحارث البوابة تنتظر ، سيارة الشيخ ربما يطول إلى الساعة الثانية أو إلى الساعة الثالثة وسائق السيارة يدق الجرس قبل الوصول إلى البوابة ليتهيأ الحارث من نومه الخفيّ وتدخل إلى حرم الجامعة صامتة لكيلا يزعج القدوم نوم الراقدين...
دق الجرس متواليا بصوت يزلزل السكن وما فيه لتستيقظ الجامعة من فراشها ولتنتقل من لباسها إلى معاشها وفتحت الجامعة عينها رويدا رويدا ويكون شيخنا في التهجد والدعاء والتلاوة وطفقت الحياض تملأ بالطلاب ، طلاب من أقصى شمال الهند إلى أقصى جنوبها ينتقلون إلى المسجد أفرادا وجماعة ويتمتم ألسنتهم بذكر الله عز وجل " الحمد الله الذي أحيانا بعد ما أماتانا وإليه النشور" وشيخنا دب دبيبا كأن الأرض لا تدري وطأه وجهها وكأنه يريد الثواب في كل من الوطأة إلى المسجد المحتو على زحام ومعه خدام يترقبون إلى أمره ليؤدوه قبل أن يتفرغ لسانه من الأمر، وإذا فرغ من صلوته وأدى السلام إلى يمينه وشماله وانفرغ لسانه من أذكارها ودعاءها يرجع من المسجد ماشيا أو راكبا وإذا يمشي لا يلتفت إلى يمين وشمال وإذا التفت تلتفت النفس كلها لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا يلتفت يلتفت جميعه كما في الشمائل المحمدية فما إن أتى في الغرفة حتى يحفه حشد كبير بحوائج مختلفة فقراء وأغنياء وأمراء وعلماء يعانقونه ويقبلونه ليستكشف كروبهم ويتفرج غمومهم ويستغيث لهم ربهم ثم يلقي إليهم كلمات الجبر والفرج ويعطي الفقراء هدايا الأغنياء ليتبرك في اقتصادهم وليتفرج غمومهم ولا يطول الكلام هنالك  مهما يطل فلن يتجاوز ربع ساعة أو أقل عادة ثم يصعد على قاعة البخاري ومعه خدام وفي يد أحدهم كتاب البخاري وفي يد الآخر نظارة الشيخ وفي يد آخر منديل قرطاسية وفي يد آخر  يد الشيخ المشرفة وبعض يرقبونه كجيش يرقب الأمير أحاطو به إحاطة الهالة بالقمر و الأكمام بالثمر والنحل بالوكر
    وقاعة البخاري تكون آن ذاك معطرة بالأعواد العربية الغالية كفردوس صنع قبل الفردوس يدعو شيخنا من يقوم بها نعيمر لأنه كان في أصحاب النبي رجل يعطر مجلس رسول الله بإسم نعيمر وإذا استوى على عرشه يكون وجهه مشرفا أشد مما قبل ويكون متواضعا أمام حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يلقي الدرس في اللغة العربية والأردية والمليبارية ويكاد ينسى جميع ما أحاط به من الأمور الدنيوية وقال غني من الأغنياء من قبل ما رأينا شيخنا أكثر سرورا مما في صالة البخاري
وفي يوم بينما هو يلقي الدرس تمعر وجهه واحمر جبينه بالغضب وصرخ قائلا : "الله! ماذا أصاب لقومي هذا؟ ، لماذ لا يفهمون كلامي..؟ وفي الواقع ما كنا نعرف لماذا يغضب علينا شيخنا هكذا ثم قال : "أما قلت لكم مرات بعد مرات أن تبتسموا إذا جاء في الحديث "تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم" أو ما في معناه ؟؟..." فاقشعررنا من حيث ما اقشعررنا هكذا من قبل وقلنا بأنفسنا " أين نحن؟ ... وأين شيخنا؟ " عندما يقرأ القارئ الحديث يكون شيخنا يمر به كانه يمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه يسمع الحديث من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي بعض الأحيان يشتد عشقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمر بالأناشيد المدحية ويهدي الهدايى ويبالغ فيه حتى يعطي جميع ما في الكيس
    عندما تتموج القاعة بموجات العلوم وأبحاثها ، وتتحشد بالطلاب من داخل كيرلا  وخارجها ، من أقصى جنوب الهند وشمالها يحتج شيخنا بدلائل متنوعة على أهل البدع والضلال والطلاب يناقشونها بشدة من جانب أهل البدع والضلال ولكنه لن يتحرك البتة أمام سؤالهم الحادة ، يقنعهم بأجوبة كافية شافية ليس وراءها بجواب ، كم من أسئلة ردت إلى كهفها بعد أن تمت مناقشاتها عند شيخنا ، رب طالب حصلوا على الهدايى حسب قوة سؤالهم...


5 تعليقات

  1. ماشاء الله جميل جدا

    ردحذف
  2. ما شاء الله وتبارك الله الف الف مبروك يا انيس النصري الثقافي
    الله تقبل
    افخر في كونني زميلك في جامعة مركز الثقافة السنية الإسلامية اسئل الله لك الحبر لاينفد والقلم لاتأهب

    ردحذف
  3. ماشاء الله..ما أطيب نقاط قلمك..كأني اسري في فناء مركز

    ردحذف
  4. ما شاء الله تبارك الله
    بارك الله فيك وجزاك الله خيرا

    ردحذف

إرسال تعليق

أحدث أقدم