إن الأمة التي رفع الله شأنها وأجل قدرها كانت تواجه ظروفا قاسية وأحوالا داهية وأوضاعا شديدة فى ولاية كيرلا قبل ستة عقود, كانت أعداء الدين الحنيف تحاول محاولة باطلة لإطفاء نور الإسلام والقضاء عليها وتنسج خطوط المكر والدهاء ضد المعتقدات كما وزعت الأمة الإسلامية التيارات الفكريات الرادكلية والمبتدعة والشيوخ الزائفين الذين يعبثون بالدين الإسلامي والإسلام بريء منهم, وإلى ذلك كانت تتخبط فى بؤرة الجهالة وتعيش بعيدا عن تعاليم الدين الحنيف وتسعى وراء الماديات والحضارة المستوردة من الغرب وامتلأت قلوبها بحب الدنيا. فظلت تتغير وتتجه إلى أسوأ يوما بعد يوم وحينا بعد حين.
لكن الله عزوجل قد قدر البقاء لدين الإسلام على صفحات الدهر إلى يوم القيمة وقضى أن لا تتغير آية من آياته وإن تغيرت الأحوال فى أي أوان, ولا يتبدل أمر من أوامره وإن تبدلت الأوضاع فى أي زمان, فهيأ لذلك رجالا كبيرة وشخصيات عظيمة قامت بشد مئزرها لمكافحة المذاهب الباطلة واستئصال الحركات الإلحادية واجتياح الفرق الضالة والقضاء على الفلسفات المضلة, ولإحياء الإسلام وأوامره وإعادة ما انحرف من الطريق القويم وحاد عن الصراط المستقيم وتخليصه من الشوائب التي شوهت تعاليمه, ونبذ ما طرأ عليه من الأوهام والخرافات, وإزاحة البدعات وبث الوعي الإسلامي ورده إلى جوهر العقيدة وينابيعه الصافية.
وكان من تلك الشخصيات العبقرية مجدد الزمان, المفكر الإسلامي, الداعية الكبير, الكاتب القدير, الخطيب المصقع, المرشد الروحي, فضيلة الشيخ العلامة عبد القادر عبد الله القادري الملقب ب"نور العلماء" رحمه الله, الذي ضحى بحياته المديدة التي امتدت إلى 94 سنة فى رصد حالة المسلمين اعتقادا وعملا وعلما وثقافة وتربية وسياسة, وتشخيص محاسنهم ومساويهم ودراسة مشاكلهم فى جميع هذه الأصعدة المتنوعة ودراسة التحديات التي تواجه الأمة المسلمة من الخارج والداخل. ففكر فى حلول مشاكلهم وجبر عيوبهم فى تلك المجالات المختلفة ثم حاول كل المحاولة لتنفيذ تلك الحلول كما ينبغي, فحقا وحقيقة هو منقطع النظير بين أقرانه والذي ازدهر منه. ولا يخفى على أحد لديه أدنى وعي عن تاريخ كيرالا ما لفضيلته من دور بارز فى تثقيف الجيل الجديد بالجهود العلمية مفكرا ومؤلفا ومدرسا وشاعرا وقائدا.
نور العلماء مفكرا
منذ صغره كان قلبه مغطى بنسيج الحزن والترح بسبب تخلف وضع الأمة الإسلامية علميا وعمليا, ونِشأ مليئا ذهنه بأحلام كبيرة وأفكار غزيرة من أجل النهوض بالأمة من وهدة الانحطاط والتخلف إلى ذروة المعارف والاستنارة. ثم بذل كل ما وسعه من جهد وجد فى سبيل الواجد جل جلاله وحقق الرغبات وأنجزها.
ومن أبرز أفكاره رأيه الجديد السديد للإنشاء المدارس الإسلامية بنظام موحد ومنهج متكامل شامل. وقد كان التعليم الإسلامي فى ديار مليبار على صورة تلقين الدروس للأولاد فى الكتاب وما كانت لها مقررات منهجية وكانوا يتلقون دروسهم من معلميهم بصورة شخصية على حدة. فكتب مقالة عن أهمية إنشاء المدارس الدينية وتنظيم برنامج تعليمي متكامل متلائم مع العصر الجديد. فناقش فيها مؤتمر جمعية العلماء بعموم كيرالا الذي انعقد فى وداكرا سنة 1951م. فوافق العلماء والأمراء على فكرته, فانطلاقا منها تشكلت هيئة التعليم الدين الإسلامي وتم تخطيط منهج وكتب دراسية لأجل تطبيق فكرته. وبالتالي أنشأت مدارس على مراحل مختلفة من الإعدادية والابتدائية والثانوية والثانوية العالية. فالطالب يتدرب أولا على قراءة الحروف الهجائية وكتابتها ثم يرتقي إلى أن يحفظ الدروس الفقهية والعقدية الأساسية المتعلقة بأركان الإسلام عملا واعتقادا ثم يتلقى دروس الأخلاق والحديث والتفسير والسيرة النبوية وسير الصالحين والتاريخ الإسلامي فالطالب الذي يواصل دراسته إلى آخر مراحلها ويكملها على أحسن وجه يكون على درجة علمية كافية فيكون متدينا متصفا بسمات التقوى ولا يتذبذب فى الفتن المثارة من جانب المبتدعة والملحدة بل يكون على ثبات ويقين. حاليا تمتد جذور هذه الهيئة فى جميع الولايات الهندية ودول المسلمين حتى فى بلاد أفريقية وأوربا وماليزيا أيضا. أما عدد المدارس حاليا يفوق على عشرات الآلاف كما أن عدد الطلبة المستفيدين منها يزيد الملايين. وقد نشرت كتب منهجية فى سبيل هذا بشتى اللغات المحلية للولاية الهندية والعالمية.
وكانت نظريته فى نشر العلم الشريف الجمع بين القديم الصالح والجديد النافع. وتلبية لهذا الهدف المنشود قام بتأسيس صرح إسلامي كبير ليصبح فيما بعد عبارة عن جامعة شاملة كاملة تخدم العلوم النافعة العريقة وتواكب العلوم العصرية الحديثة, وهو جامعة السعدية العربية التي تقع فى كاسركود (Kasaragod) بشمال كيرالا والتي مضى على تأسيسها 44 سنة. حاليا تضم مختلف الشعبات العلمية فيما بين الدينية والعصرية والتقنية, ويتفيأ ظلالها أكثر من خمسة آلاف طالب من مختلف أنحاء البلاد الهندية, وأصبحت اليوم دوحة طيبة كبيرة أصلها ثابت وفرعها فى السماء.
وقد أثر فكره أيضا فى تشكيل جمعية الشبان السنيين التي قطعت ستة عقود والتي ينتمي إليها حاليا زهاء ثلاثة ملايين من مسلمي كيرلا. في مر الأيام وكر الأزمان استطاعت هذه الجمعية أخذ مجامع قلوب المسلمين وقيادتهم على نهج كتاب الله وسنة رسوله وتوجيههم إلى الصراط المستقيم الذي سار عليه الأسلاف الأعلام بعيدين عن الانحراف الخلقي والعقدي والتيارات الفكرية الضالة.
ومن الجدير بالذكر فكره السديد وجهده الجهيد فى تنظيم الشبان المتدفقين تحت مجموعة خيرية دينية سميت ب"جمعية لتجهيز الميت" فى بداية حياته الاجتماعية. هذه الخطوة البارزة من خدماته المتميزة قد ظهرت إلى النور حين كان فضيلته مدرسا فى المسجد الجامع بموتامل (Mottammal) قريب من بلده, واهتمت هذه الفرقة بتجهيز الميت على وجه صحيح فى تلك المنطقة وما حولها. وكان فضيلته تعامل مع الناس عبر هذه الطريقة ببشاشة الوجه وهشاشته وطلاقة اللسان وفصاحته وقلع جذور الضلالة والسفاهة من قلوب المؤمنين وألقى بذور الحق والصواب فى صدور المسلمين.
نور العلماء مؤلفا
ومن أحسن ما يذكر عن نور العلماء أنه صاحب قلم جياش, كتاباته ومؤلفاته استنهضت همة المسلمين وحركت مشاعرهم, وجل كتاباته ركزت على الدفاع عن أهل السنة والجماعة من جهة وعلى عرض العقائد الإسلامية الصحيحة على الأجيال القادمة من جهة أخرى, وله نحو عشر مؤلفات باللغة العربية وأكثر من عشرين كتابا فى اللغة المحلية, مليالم.
خلال نشاطات "جمعية لتجهيز الميت" فى منطقة موتامل (Mottammal) وحولها تحت رئاسته قد ألف كتابا مفيدا فى اللغة المليبارية يحمل عنوان "تكفين وتجهيز الميت". وهذا أول نجم من نجوم سماء مؤلفاته الذي أدى إلى تعليم أبناء تلك المنطقة ومن حولها المسائل والأحكام الشرعية على وجه صحيح ثم تلته عدة مؤلفات رائعة متميزة مليئة بالعلم والفكر والأدب تحت موضوعات شتى فى ثلاث لغات.
وهو كرس نفسه ونفيسه فى إقامة السنة اشرعية وكان سيفا قاطعا ضد أهل البدعة والضلالة, وبخاصة جماعة التبليغ التي نشرت سموم البدعة فى أوساط عامة أهل السنة بلباس الدين الصحيح. وكانت جمعية العلماء "سمستا" عينت لجنة خاصة لإعداد تقرير عن جماعة التبليغ, وخلصت النتيجة إلى أنها فرقة مسمومة ينبغي للمسلمين الابتعاد عنها. عندما شاعت نشاطات مضلة هذه الفرقة الضالة فى أنحاء شمال كيرالا بحث فيها كل البحث ودرس عنها دراسة عميقة وأبرز المخاطر الكامنة داخل تلك الفرقة عبر كتاباته ومؤلفاته. وأجل ما كتب فيها "ما هي الجماعة التبليغية؟" وهو أول كتب ظهرت إلى النور عن جماعة التبليغ فى اللغة المليبارية. ثم ألف كتابا قيما بهذا الصدد فى اللغة العربية باسم "كشف الشبهة عن الجماعة التبليغية".
حينما عمت الأفكار المودودية بين بعض المسلمين اضطر فضيلته إلى إظهار ضلالتها وسفاهتها فألف كتابا باسم "معارضة للمودوديين" فى اللغة المحلية بعد دراسته الطويلة العميقة وهو أول كتاب من كتبه التي أصدر عن جمعية الشبان السنيين. وبعد ذلك نشر كتابه العربي "أبو الأعلى المودودي وحركاته".
ومن جملة آثاره الثمينة بهذا الصدد "رد على الجماعة الإسلامية" و "من المبتدعون وكيفية معاملتهم" و"الفكريات الإسلامية بين الحق والباطل " و"الشيوعة والاشتراكية والإسلام" و"العقائد الإسلامية" وكلها قد لعبت دور بارزا إلى حد كبير فى الحفاظ على تراث الإسلام ودفاعا عن العقيدة السمحة.
إن من المؤسف أن الجيل الجديد من طلبة العلم الشريف وغيرهم يعيشون على هامش من الوعي عن تاريخ أسلافهم المجيد على حين أنهم يركزون كل اهتمامهم ومزاجهم فى الدراسة على قطاع التكنولوجيا والعلم الحديث وقد جهل أكثرهم عن التاريخ والحضارات هو الذي يجعلهم إنسانا واعيا ناضجا ويمهد لهم طريق المجد ويعينهم على التفوق فى الدراسات القيمة.
علما بهذه الحقائق الواضحة, جاء كتاب فضيلته "مناقب بعض المختارين من أولياء الصحابة " الذي يعد من أبرز مؤلفاته حيث جمع فيه من سير أفضل القرون فى هذه الأمة, هو صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم صفوة هذه الأمة والقدوة الحسنة لمن بعدهم لأنهم أخذوا دينهم وفقههم وعقيدتهم وسلوكهم من مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم, واقتبسوه عن شعلة مشكوة النبوة على صاحبها أفضل الصلوة وأزكى التسليم فأصبحوا أئمة الدين وهداة المتقين ومنارة الهدى وأعلام الدعوة.
وكان الصحابة رضي الله عنهم قد تفرقوا فى الأمصار, وبرز فى كل بلد واحد منهم أو أكثر, والتف حوله كثير من التابعين يأخذون عنهم القرآن الكريم ويروون الحديث النبوي الشريف فيما أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلهم دور هام فى حمل الرسالة الإسلامية الحنيفة وتزويد الأمة الأسوة بالعلم والمعرفة, فمن المهم معرفة التابعين ومكانتهم وأحوالهم وخدماتهم, فقام فضيلته بتأليف الكتاب "صفوة الأولياء من خيار التابعين الأصفياء", وهو يسلط القراء على اطلاع حياتهم الحافلة بالحوادث والوقائع وخدماتهم الجليلة النبيلة.
وفى الظروف التي تندر فيها التأليفات القيمة الشاملة عن تابعي التابعين, قام بكتابة الرسالة الثالثة فى مناقب خير القرون باسم "مناقب المنتخبين من أتباع التابعين" وأورد فيها مناقب تبع التابعين الذين عاشوا فى القرن الثالث بما فيهم الأئمة المجتهدون الأربعة والصوفية المتقدمون ومدونو عقائد أهل السنة المتين وهم أوائل هذه الأمة المقتدون بهم فى المسالك وأنواع الخيرات الجمة, كما قدم قبل ذلك "مختصر مناقب الأقطاب الخمسة" المرشدين للسالكين إلى طريق أهل الله المتين. قد ترجم هذا الكتاب أحد من تلامذته فى اللغة المحلية.
وله أيضا مؤلفات تاريخية فى اللغة مليالمية ومنها "الكتاب الأول فى تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم" وكان أدخل فى مقررات المدرسة تحت هيئة التعليم الدين الإسلامي لتدريس الطلاب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم و"رحمة للعالمين" وهو أول كتب نشر بنفسه و"أبطال المؤتة". ولا شك أن فى هذه المناقب كلها أضواء الهداية وأنوار الإيمان ترقق القلوب وتهذب النفوس وتنمي فى الإنسان مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات.
التصوف هو لب الدين الإسلامي وهو الأخذ والتمسك بشرائع الإسلام على أكمل وجه والعمل بالأحوط. للأسف ظهرت الخرافات بين المسلمين باسم التصوف فقدم فضيلته كتابا قيما "مقدمة علم التصوف" وبين فيه حقيقة التصوف بكل الوضوح.
"المسلمون وشرائع الإسلام" نشر كتابه هذا فى اللغة المليبارية حينما عمت بين المجتمع الهندي مناقشات حول شرائع الإسلام بمناسبة قضية شابانو عام 1979م. والجدير بالذكر أن هذا الكتاب نشر مرة ثانية مؤخرا عندما طفقت تعم تلك المناقشات مجددا إثر أن تولت فرقة بي جي بي حكم الهند. وهو قام بإبراز فيه الشريعة الغراء بكمال الدقة فى التعبير وموقف الشريعة فى القضايا والمسائل التي أدت إلى ذلك المؤلف.
ومن روائع أعماله الجادة "الاجتهاد والتقليد وتطوراته" و"الأذكار المسمى بنيل المراد بالأذكار" و"يوم عيد الأضحى" و"شهر رمضان وعيد الأضحى" و"عبر الأراضي الإسلامية" و"هجوم للتجديد الديني" و"المذكرات الشخصية" و"تاريخ جمعية العلماء لعموم كيرلا" و"المصباح فى فضل الصلاة على خير الإمام صلى الله عليه وسلم" و"همة الصحابة" و"يوم المسلم" و"الأولياء والكرامات" و"مجموعة الموضوعات المنثورة فى الجرائد".
احتراما له وتقديرا لجهوده المشكورة, قد تم جمع هذه الأعمال فى مجلدات ثلاث ضخمة. وقام به نفس الجمعية التي رباها - جمعية الشبان السنيين- تخليدا لذكراه الوهاجة وتثمينا لقدره الرفيع.
ومن أعجب ما لوحظ فيه, كان محافظا أشد المحافظة على الاستفادة من الوقت. فقد جنى ثمرته حيث كتب أكثر من ثلاثين كتابا رغم ضغوط العمل الاجتماعي والدعوي.
نور العلماء شاعرا
كان فضيلته فحلا من فحول الشعراء ونجما من نجوم الأدباء. وقد نظم الشيخ قصائد عديدة فى مختلف الأغراض الشعرية من الترحيب والمدح والرثاء والمديح النبوي. إن أشعاره الجميلة وأبياته الجليلة مشتملة على قوانين الشعرية العربية ومحتوية على أحكامها كما توافق أساليبها العجيبة. وبموهبته الطيبة وقريحته الجيدة بلغت قصائده منزلة سامية ومرتبة عالية بين الأشعار العصرية.
ومعظم أشعاره فى مرثية العلماء الذين انتقلوا إلى جوار ربهم فى حياته. ومن أبرز العلماء الذين رثى عليهم سماحة الشيخ العلامة السيد علوي المالكي, والشيخ حسن محمد شداد بن عمر باعمر, وسمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان, والشيخ ولي الله محمد الحاجي البدغري وغيرهم من الأعلام البارزين الذين بذلوا جهودهم الجبارة لدين الله الحنيف. وليس من الممكن لأحد أن يقرأ المراثي المؤثرة المكتوبة بيده إلا وعينه دامعة ونفسه جائشة ووجهه مكتئب وقلبه مضطرب.
ومن أبرز قصائده فى المديح النبوي "شكوى الكئيب لحضرة الرسول الحبيب" وهذه المنظومة المتكونة من 180 بيتا على بحر الرجز تدور على بيان عظمة وكمال خير الخلق محمد عليه الصلاة والسلام ويجعلها وسيلة للتشفع به.وسميت بشكوى الكئيب لحضرة الرسول الحبيب لأن الناظم يرفع شكواه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقبل أن يبلغ الشاعر شكواه يذكر ما تيسر له من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم توطئة وتمهيدا للمناجاة بمحبوبه. واستمد كل ما ذكره من وقائع حياة النبي صلى الله عليه وسلم من كتب الأحاديث والسيرة النبوية, ويدل على ذلك شرح الناظم نفسه لهذه المنظومة شرحا باسم "كشف النقاب عن مخدرات شكوى الكئيب لحضرة الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم".
كان من عادة فضيلته إنشاء القصيدة وإرسالها إلى الحضرة النبوية على يد الحجاج والمعتمرين لتقديمها أمام الحجرة الشريفة. والقصيدة التي سماها "هدية العاتي" أنشأها وهو ابن اثنين وعشرين سنة, وأرسلها على يد الحجاج سنة 1326ه وهي تتألف من 23 بيتا من بحر الطويل. ويعبر الشاعر فيها عن رغبته الشديدة لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم والمبيت حول حجرته الشريفة وليسكب الدموع فى تلك الأماكن المقدسة ويلثم التربة الطاهرة ويمرغ فيها وجهه حتى انسدت عينه. وينادي النبي صلى الله عليه وسلم ويعبر عن رغبته فى الانضمام إلى سلك المحبين ويطلب منه الشفاعة. والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم إحدى الموضوعات التي تناولها مداح النبي صلى الله عليه وسلم فى قصائدهم.
وله قصيدة أخرى أنشأها سنة 1373ه وأهداها لحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم على يد خاله المرحوم أحمد مسليار. وهذه القصيدة التي ألفها على بحر الهزج تتكون من 16بيتا وهي ممزوجة بالمودة والمحبة والعشق والشوق والفرح والترح والحنين والحزن والألم والهم والغم. ويظهر الذل والانكسار والتواضع من خلال اعترافه بذنوبه وزلاته ويرجو عفو الله ويطلب من النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة وأخذ يديه إلى باب عفو الرحمن. ولا شك أن مداح حضرة النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون هدفهم بقصائدهم الأغراض المادية والمنافع الشخصية بل يكون الحافز الوحيد هو حب النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أصل عظيم من أصول الإيمان.
وبعض أشعاره قام بكتابته تهنئة للضيوف وترحيبا للعلماء ومن أبرزها الأبيات التي نظمها عندما زار الشيخ صباح الدين أحمد الرفاعي جامعة السعدية, والأبيات التي قام بها تهنئة إلى صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة وإلى شعب دولة الإمارات بمناسبة عيدها الوطني, والأبيات التي قرضها وقت زيارته معالى الوزير الشيخ محمد أحمد بن الخزرجي, والأبيات التي نظمها تهنئة إلى حضرة سعادة الشيخ ضاحي خلفان المحترم بمناسبة ترقية منصبه فى الوظيفة.
نور العلماء مدرسا
منذ نعومة أظفاره كان فضيلته فى غاية الذكاء والفطنة وسيلان الذهن وقوة الحفظ والإدراك, وقد متعه الله عزوجل ولعا شديدا وشغفا كبيرا على طلب العلم وإتقانه, وكان راسخ القدم فى العلوم الإسلامية والفنون الدينية والمعارف الشرعية.
السيد العلامة حامد كوياما, أحد من شيوخه, حثه على إلقاء الدروس فى المسجد الجامع بموتامل (Mottammal) بعد تجديد بنائه لأنه قد عرف شرفه لا يوازيه شرف وفضله لا يماثله فضل وقريحته الباهرة ومهارته النادرة فى مجال العلم والسلوك والدعوة. واحترم إرشاده, وتولى المسؤولية العظمى, وبدأ تدريسه بإجازة شيخه المرشد السيد شاه الحميد البخاري وهو شق له طريقا قويما الذي جعل حياته نجما ثاقبا فى سماء العلم وآفاقها. وقام بافتتاح تدريسه سماحة السيد حامد كوياما, والتحق به ابنه السيد محمد كويا طالبا أولا ونشأ فى حضانته العلمية عدة من الزمان طالبا جادا مجدا مستقيما ثم تخرج من كلية الباقيات الصالحات بولور فأصبح أول تلامذته مدرسا ماهرا.
وبعد خدمته بموتامل (Mottammal) التي امتدت إحدى عشرين سنة, انتقل منه إلى كلية قوة الإسلام بتاليفرمبا (Thalipparampa) التي أسست قواعده بيد الشيخ أحمد بن نور الدين المولوي المشهور ببانغيل أحمد كوتي مسليار. وبمساعيه الجادة, ارتقت هذه الكلية من مرحلة المدرسة إلى مستوى كلية تجمع بين العلوم المادية والروحية حسب المنهج الدراسي النظامي الذي يجري فى كلية الباقيات الصالحات بويلور. ثم قام بالتدريس مدة سنة فى مسجد ادنور.
بعد أن تولى زمام أمر جامعة السعدية عام 1978م قضى معظم حياته ومجمل ساعاته فى ساحتها مدرسا محققا ومعلما مدققا وناظرا ماهرا ومديرا باهرا حتى قضى نحبه. وقد تشرف لديه بحصول العلم عدد كبير من العباقرة والنوابغ من العلماء والأدباء الذين يقدمون خدمات مثالية فى المجال الديني كمدرسين وأئمة المساجد ودعاة إلى الله تبارك وتعالى.
ومن أهم ما يخصه محبته العريقة للغات واهتمامه البالغ بها وكان فصيحا فى اللغة العربية والأردية. ومن أكبر شاهد على محبته لها أنه أسس دورة التخصص فى اللغة العربة أول ما أسس دورة للتخصص فى جامعة السعدية. ثم أسس ثانيا دورة التخصص فى الفقه الإسلامي. وكذلك أدخل فى مقررات الجامعة لتدريس مادة التفسير تفسير أبي السعود حيث لم يكن تفسيره من المقررات للجامعات الأخرى بولاية كيرالا. وتولى بنفسه تدريسه بالدراسة التحليلية. ولا يخفى على أحد دور تفسير أبي السعود فى المباحث اللغوية.
وله أيادي بيضاء على نشر اللغة العربية وكان يحرص على تقدم مجلة "الثقافة" حيث إنها المجلة الأولى من نوعها التي تصدر عن أرض كيرالا ومجلة شهرية "صوت الجامعة" تصدر عن جامعة الهند الإسلامية.
حينما تلقى فضيلته من الأستاذ السيد شاه الحميد قد نال مهارة باهرة فى اللغة الأردية. وكان الشيخ المولوي أن سي عبد القادر يدرس فى المسجد القريب من المسجد الذي يدرس فيه, وهو ماهر جدا فى اللغة الأردية. وكان فضيلته يتردد إليه مشيا على الأقدام مساء كل يوم ليتدرب على اللغة الأردية منه بلا كسل ولا ملل بشدة رغبته فى كسبها, وتواصل هذا حتى تمهر فيها. ثم طفق يطالع الكتب والرسائل الأردية وفهم مما قرأ ما فى المودودية والقاديانية وجماعة التبليغ وأدرك ما أحدثوا فى الدين الخالص من البدع السيئة والضلالات واعترض عليهم بحجج قاطعة ودلائل واضحة عبر المصنفات والمناقشات والمحاورات والرسالات والخطابات فى اللغات الثلاثة المليبارية والأردية والعربية. ولذا كان يحث الطلاب على التمهر فى اللغات وبث نور الدعوة والرسالة فى النواحي المتفرقة عبر لغاتهم المختلفة والوسائل المتنوعة.
نور العلماء قائدا
بالإضافة إلى أفكاره المتيقظة مع بصيرته العصرية وعزيمته العظمى وهمته العليا, مسيراته الناجحة ونشاطاته المفلحة أدت إلى نهضة علمية وثورة تربوية طول البلاد وعرضها, وانتقل من قرية إلى قرية ومن مدينة إلى مدينة لنشر علوم الدين بين العوام والخواص ولإعلائهم إلى مستويات الثقافة الفائقة ودرجات الحضارة النبيلة. على الرغم من أن الحساد والأعداء ألقى العراقيل والحواجز فى طرقه الواسعة, اندفع إلى الأمام بهمته العجيبة وشجاعته الصليبة - لا مجال للهزيمة إذا توفرت العزيمة – ما كان شيئ يسوق إلى الأمام ولا شيئ يقود إلى القدام إلا التوكل والتفويض على الله عزوجل.
بسبب نشاطاته الممدوحة, وكان أول الأمناء لجمعية المعلمين فى 1958م ثم صار رئيسا سنة 1965م. حينما وسعت خدمات جمعية العلماء إلى عموم الهند قد انتخب نائب رئيس لجمعية علماء أهل السنة والجماعة بعموم الهند سنة 1992م من مدينة بنكلور. ثم لما عزم العلماء على أن يوسعوا خدمات هيئة التعليم الإسلامي إلى جميع أنحاء الهند وسائر البلدان اجتمع أجلاء العلماء وأعضاء جمعيات المسلمين الهندية فى أتربراديش شمال الهند, ثم انتخبوا بصوت واحد رئيسا لهيئة التعليم الإسلامي بعموم الهند نور العلماء. وكان مدير العام لجامعة السعدية العربية مدة أربعة عقود. وكان من حسن حظه أنه وفق أن يخدم كرئيس لجمعية علماء أهل السنة "سمستا" فى آخر لحظات حياته.
وفاة نور العلماء هز الساحة العلمية برمتها, لأن حياته كانت حياة حقيقية حافلة بالعطاءات العلمية وعامرة بالنشاطات الدعوية وباهرة بالخدمات التربوية. ولم يرض أن يضيع لحظة فى ثرثرة لا طائل تحتها وحارب الوقت بسيوف خير الأعمال. ولا يزال يتجدد فينا ذكرياته ويصل إليه ثواب خدماته للإسلام والمسلمين كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له.
إعداد :محمد هشام النصري السعدي
hishamkavapura@gmai. com
Post a Comment